وبعد أيها القارئ الكريم،
فكيف وصل عالمنا اليوم لما هو عليه الآن في جوانب التنمية المختلفة بشكل مجمل ؟
لنتوقف هُنيهة مع قصيدة كاثرين ساسانوف "أوبنهايمر يغادر أسرته للعمل مجدداً، لوس ألموس 1945"
غادياً/ عائداً. بيت لم يشهد ولادتي،
مغادرته لا تثير فيّ شعورا بالذنب:
لطالما نزلت به مراراً،
وكان حضوراً يشبه الانصراف..
أضحى ظهري باباً موصداً
لا يُرى منه وجوه أبنائي العابسة
كطعنة خنجر ــ
لا تراق الدماء بغياب الآباء
على الرغم من ذلك
قصص الأطفال الذين احترقوا
تجعل زوجتي مرتعبة من تلك الأيادي الصغيرة
التي يمكن أن تكرر محاولات الإشعال بين الكبريت
والهواء. كيتي،
سنوات من البراءة،
والصحة سيزهو بها شباب ابنتنا،
وهي مستترة -
تحت ذلك الفستان الذي يُطل بحافته
دون أن يبين.
و نعود لنجيب على السؤال السابق وما يتشعب عنه من الأسئلة المتعلقة بكيفية تشكل التنمية عالمياً حتى لحظتنا الحاضرة.
سنتناول بشكل مجمل فقط و بالسرد والتحليل الأولي مجموعة من الرسائل التي يمكن القول أنها علامات فارقة في تشكيل العالم كما نعرفه اليوم وفي هذه اللحظة الراهنة، مع التركيز على أبرز جوانب التنمية وتأثيراتها المتعدية منذ نهايات القرن الثامن عشر وحتى اليوم.
الرسائل هذه المختارة تعبّر وتختزل، وقد يكون اختزالاً مُخِلاً، عن ستة مراحل مختلفة لجوانب تنموية متعددة خلال القرنين الماضيين.
وكل رسالة فيها شاركت في التعبير عن تشكل تلك المرحلة وهي على التوالي: الثورة الصناعية، و سباق التسّلح العلمي خلال الحروب العالمية، والمشاريع الإغاثية الدولية ما بعد الحرب العالمية الثانية، و الاحتلال وعملية التحرير، وثورة تقنية المعلومات والاتصالات، والمواطن العَالِم بدايات القرن الحادي والعشرين.
يجمع بين الرسائل المكتوبة أمور مشتركة كانت سبباً في اختيارها دون غيرها لهذا السرد.
من أهمها: أخذ زمام المبادرة، وربما يكون أقرب ما توصف به هو قرع جرس إنذار إيذاناً بمرحلة جديدة مقبلة. فكانت تلك الرسائل وسيلة الإعلام عن ماهية هذه المرحلة وما هو هذا الشيء الجديد المُركّب الذي يصف المرحلة و يتكون في الأفق. وكيف من الممكن تبسيط معانيه ومفاهيمه لإيصاله بالطريقة الصحيحة قدر المستطاع للمُخاطَب لعله يستفيد من معان ومحتوى الرسالة.
أما من ناحية كُتّاب هذه الرسائل فهي مجموعة مما يقال عنهم النخبة كمفكر، وعالم فيزيائي، و سياسيّ. ومجموعة أخرى من مواطنين عادييّن كمبتكر، وهاوية للفلك. وهذا التقسيم ربما يكون الأنسب لوصف عملية مرحلية وقتها وهي كذلك انتقالية مستمرة آخذة في التطور حتى اللحظة. وهذه العملية قامت في بداياتها على حصر صناعة المعرفة لدى نخب معيّنة في المجتمع، في الأغلب كانوا من العلماء وصنّاع القرار. وهذا قد أدى إلى أن إسهاماتهم الفكرية شكّلت نمطاً معيناً في تصور العالم ككيان واحد أو نسخة واحدة، وبالتالي تطبيق نسخة معرفية عالمية موحّدة، تنطلق منها بعد ذلك استراتيجيات وسياسات وآليات تنموية ذات صبغة واحدة بغض النظر على أي بقعة كانت على أرض الواقع. بل تعدى الأمر إلى فرض هيمنة على أمم مختلفة بحجة أن هذه المعرفة هي أفضل ما أنتجه البشر على الإطلاق ولذلك وجب على الآخرين المحاكاة مباشرةً وعدم تضييع الوقت في محاولات أخرى! فعلى سبيل المثال خطة مارشال لإعمار الدول الأوروبية حققت نجاحاً كبيراً بالفعل حينها. وكانت الفرضية وقتها أن هذا الأسلوب قابل للتأصيل والمنهجة وإعادة التطبيق من جديد في أي مكان بالعالم، كما فعل روستو من خلال المراحل الخمس التنموية التي اقترحها. وقد ثبت فيما بعد بالتكرار والملاحظة والتقييم للبرامج المختلفة أن هذه الفرضية فشلت بشكل ذريع عند تطبيقها على بيئات مختلفة ثقافياً واجتماعياً وسياسياً.
والمجموعة الأخرى تحكي سردية مختلفة وهي تمثل المواطن العادي وكيفية رؤيته للعالم وتشكله من حوله. وما هي طرقه في استشراف مفاتيح المعرفة بمختلف جذورها وأغصانها وثمارها كي تكون متاحة للجميع. وهذه السَردِية المتعاضِدة مع العامة تفتح مؤخراً أبواباً مختلفة و جديدة لكافة الناس بأن يشاركوا و أن يدلوا بدلوهم في تشكيل عالمٍ لم يعد كافياً أو شافياً أن يكون محصوراً على فئة دون أخرى.
وفي الوقت الذي قد نجحت فيه بالفعل العديد من النماذج التنموية حول السياقات السابقة الذكر، أخفقت نماذج أخرى اخفاقاً ذريعاً ، وبالخصوص في تقديم أجوبة شاملة وحلول لا تتسبب في مشاكل بأكثر مما تصلح. ونَدُرَ أن تجد منها ما يراعي جوانب متعددة ذات أهمية كالبيئة والثقافة والمكان والزمان الذي تنطلق منه..
فيظل السؤال الأكثر إلحاحاً:
ما هي ملامح نموذج بديل مختلف للتنمية قد يستلهم الابتكار من مقومات ذات تراث أصيل، ويمكن أن يفتح آفاق تنموية متعددة؟
(رسائل في التنمية 3).